عبد السلام النابلسي: “الكونت” الذي سحر السينما بضحكته الراقية
عبد السلام النابلسي، الملقب بـ”الكونت دي نابلسي” و”ملك الإيفيهات”، هو أحد أعمدة الكوميديا في السينما العربية، الذي ترك بصمة لا تمحى في وجدان الجمهور. ولد في 23 أغسطس 1899 في إحدى قرى عكار بمدينة طرابلس اللبنانية، لعائلة فلسطينية الأصل، وتحديدا من مدينة نابلس التي اشتق منها لقبه. رحل عن عالمنا في 5 يوليو 1968، تاركا إرثا فنيا غنيا يمتد عبر عقود من الإبداع. في هذا المقال، نستعرض حياة هذا الفنان الاستثنائي منذ نشأته وحتى وفاته، مرورا بمحطاته الفنية والشخصية التي شكلت شخصيته المميزة.
النشأة: من الأزهر إلى أضواء السينما
ولد عبد السلام عبد الغني النابلسي في أسرة متدينة ذات جذور فلسطينية عريقة، حيث كان جده ووالده من قضاة مدينة نابلس. نشأ في بيئة محافظة، حيث انتقل مع والده إلى نابلس بعد تعيين الأخير قاضيا هناك. في سن العشرين أرسله والده إلى القاهرة للدراسة في الأزهر الشريف بهدف أن يصبح قاضيا شرعيا على خطى عائلته في الأزهر أظهر النابلسي تفوقا لافتا حيث حفظ القرآن الكريم وأتقن اللغة العربية إلى جانب تعلمه الفرنسية والإنجليزية في بيروت مما منحه ثقافة لغوية واسعة أثرت لاحقا في أدائه الفني
لكن شغف النابلسي لم يكن في الفقه بل في الفن في القاهرة وخلال ذروة ثورة 1919 ضد الاحتلال الإنجليزي تأثر بالحركة الثقافية والفنية التي كانت تعج بها المدينة. أنفق المال الذي كان يرسله له والده للدراسة على حضور العروض المسرحية في شارع عماد الدين، مركز الفن في ذلك الوقت. عندما علم والده بذلك، قطعت عنه النفقات، مما دفعه للعمل في الصحافة والترجمة لتغطية مصاريفه، حيث كتب في مجلات مثل “مصر الجديدة” و”اللطائف المصورة” و”الصباح”.
الحياة الفنية: من التراجيديا إلى ملك الكوميديا
بدأ النابلسي مسيرته الفنية في عشرينيات القرن العشرين بانضمامه إلى فرقة “رمسيس” المسرحية، لكنه سرعان ما انتقل إلى فرقة جورج أبيض التي كانت تقدم عروضا باللغة العربية الفصحى، وهي اللغة التي أجادها بفضل تعليمه الأزهري. في البداية، قدم أدوارا تراجيدية، لكن الصدفة قادته إلى الكوميديا عندما أثار مشهد له في مسرحية “يوليوس قيصر” ضحك الجمهور بشكل غير متوقع، مما دفع جورج أبيض لنصحه بالتركيز على الأدوار الكوميدية.دخل النابلسي عالم السينما عام 1929 بدور ثانوي في فيلم “غادة الصحراء”، ثم برز اسمه عام 1931 في فيلم “وخز الضمير”، ليبدأ رحلة طويلة مع السينما المصرية. لم يكتفِ بالتمثيل، بل عمل كمساعد مخرج، خاصة في أفلام يوسف وهبي،
الذي أطلق عليه لقب “الكونت دي نابلسي” لأناقته وأسلوبه الأرستقراطي. بحلول عام 1947، تفرغ للتمثيل بعد نجاحه الكبير في الأدوار الكوميدية، حيث قدم أدوارا مساندة لنجوم كبار مثل إسماعيل ياسين، فريد الأطرش، وعبد الحليم حافظ.كان النابلسي يتميز بأسلوب كوميدي فريد يعتمد على الحوار الذكي، واللعب بالألفاظ، و اللكنة الأرستقراطية الممزوجة بخفة الظل. قدم شخصيات مثل “الشرير“، “مدرب الرقص“، “الموسيقار“، و”المخبر السري“، التي أصبحت علامات مسجلة باسمه. من أبرز أفلامه “حلاق السيدات” (1960) الذي قام فيه بالبطولة المطلقة، و”شارع الحب” حيث جسد شخصية “حسب الله السادس عشر”، و”أرض السلام” الذي أظهر فيه جانبا إنسانيا عميقا بدور فلسطيني يضحي بحياته.
المواقف المؤثرة في حياته
عاش النابلسي العديد من المواقف التي شكلت مسيرته وحياته. من أبرزها:
الانتقال من التراجيديا إلى الكوميديا:
كان اكتشافه لموهبته الكوميدية بالصدفة نقطة تحول رئيسية، حيث وجد في الكوميديا متنفسا لإبداعه.
مشادته مع يوسف شاهين:
في فيلم “أنت حبيبي” (1957)، اختلف النابلسي مع المخرج يوسف شاهين حول طريقة أدائه، مما أدى إلى مشادة انتهت بقرار شاهين عدم إخراج أفلام كوميدية بعد ذلك. هذا الموقف أظهر تمسك النابلسي بأسلوبه الخاص.
مشكلة الضرائب:
في أوائل الستينيات، واجه النابلسي أزمة مالية بسبب ديون ضريبية بلغت 13 ألف جنيه مصري، مما أجبره على مغادرة مصر إلى لبنان عام 1962. رغم تدخل شخصيات بارزة مثل أم كلثوم ويوسف السباعي، لم تحل المشكلة، وظلت قيد التعليق حتى وفاته.
الحياة العاطفية: من “أشهر عازب” إلى زواج مثير للجدل
كان النابلسي يعرف بلقب “أشهر عازب في الوسط الفني“، حيث عاش معظم حياته دون زواج، وكان يسخر من فكرة الزواج بتعليقات فكاهية مثل “لسه متزوجين؟ تفرقوا تفرقوا”. لكن في الستينيات من عمره، فاجأ الجميع بزواجه من إحدى معجباته، جورجيت سبات، وهي لبنانية تصغره بسنوات كثيرة. واجه الزواج معارضة شديدة من عائلة جورجيت بسبب فارق السن والاختلاف الديني (كونها مسيحية وهو مسلم)، مما دفع الثنائي للزواج سرا في فيلا صديقه فيلمون وهبي. دخلت العائلة في صراع قانوني مع النابلسي، أجبر خلاله على تطليقها مؤقتا، لكن المحكمة أكدت صحة الزواج لاحقا، واستمر الزوجان في حياة مليئة بالحب والتفاهم حتى وفاته. لم يرزق النابلسي بأطفال، لكن جورجيت كانت رفيقة دربه و داعمته الأولى.
الحياة السياسية: وطني يعيش في القلب
على الرغم من أن النابلسي لم يكن نشاطا سياسيا بالمعنى التقليدي، إلا أن جذوره الفلسطينية ونشأته في بيئة وطنية أثرت في مواقفه. عايش ثورة 1919 في مصر، وكان متأثرا بالنهضة التنويرية التي شهدتها البلاد. في عام 1936، زار فلسطين للمشاركة في فيلم “الهارب“، ودعا العرب إلى تشجيع السينما كوسيلة لتعزيز الروح الوطنية. كما جسد دورا مؤثرا في فيلم “أرض السلام” (1957)،. حيث أظهر تضحية فلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي، مما عكس ارتباطه العميق بقضية وطنه.
الوضع المالي: من النجومية إلى الإفلاس
على الرغم من نجاحه الفني، عانى النابلسي من أزمات مالية حادة في سنواته الأخيرة. في مصر، تراكمت عليه ديون ضريبية لم يتمكن من سدادها، مما أجبره على العودة إلى لبنان. في بيروت، تولى إدارة شركة الإنتاج الفني “الشركة المتحدة للأفلام”،. وساهم في زيادة إنتاج الأفلام اللبنانية، لكنه واجه ضربة قاصمة عندما أفلس بنك “إنترا” الذي كان يودع فيه كل أمواله. هذا الإفلاس أدى إلى تدهور حالته الصحية والمالية،. حتى توفي مفلسا، حيث تكفل صديقه فريد الأطرش بمصاريف جنازته.
علاقاته بالأصدقاء والوسط الفني
كان النابلسي محبوبا في الوسط الفني، حيث شكل ثنائيات مميزة مع نجوم عصره.
مع إسماعيل ياسين، شارك في 36 فيلما، حيث كان النابلسي الصديق المتزن بجوار إسماعيل الذي يعتمد على المبالغة. رغم بعض الخلافات الفنية البسيطة،. كانت علاقتهما قائمة على الاحترام والمحبة،. ودعم إسماعيل النابلسي في أول بطولة مطلقة له في “حلاق السيدات”.
مع فريد الأطرش، شارك النابلسي في 16 فيلما، وكانا صديقين مقربين،. حيث أثرت وفاة النابلسي بشدة على فريد، الذي انهار حزنا عند سماع الخبر.
كما عمل مع عبد الحليم حافظ في خمسة أفلام، مضيفا لمسة كوميدية لأفلامه الغنائية.
علاقته بالفنانة صباح كانت مميزة أيضا، حيث شاركها أفلاما في مصر ولبنان،. وكانت شاهدة على تدهور حالته الصحية في أيامه الأخيرة.
كما حظي النابلسي بدعم كبار الفنانين مثل أم كلثوم،. التي حاولت التدخل لحل أزمته الضريبية، مما يعكس مكانته الموقرة في الوسط الفني.
علاقته بالفنانة زمردة كشفت عن جانب خفي من حياته،. حيث كانت الوحيدة التي عرفت بمرضه القلبي الذي أخفاه عن الجميع للحفاظ على مسيرته الفنية.
تأثيره وإرثه
عبد السلام النابلسي لم يكن مجرد ممثل كوميدي، بل كان مدرسة فنية قائمة بذاتها. علم أجيالا من الممثلين أهمية الذكاء في الأداء وقوة الكلمة في نقل الشعور. كان يؤمن أن التمثيل هو خلق عالم جديد من الإحساس، وليس مجرد تقليد للواقع. أدواره لا تزال تضحك الجمهور و تلهمه، وتظل شاهدة على عبقريته في تقديم كوميديا راقية خالية من الابتذال.
رحل النابلسي مفلسا، لكنه ترك ثروة فنية لا تقدر بمال. اسمه محفور في ذاكرة السينما العربية كرمز للإبداع والخفة، ويظل “الكونت” الذي سحر الجماهير بضحكته الراقية وأسلوبه الفريد. إرثه يعيش في أفلامه التي لا تزال تعرض و تحبب الجمهور في فنان عاش للفن،. وحمل في قلبه حب الوطن والإنسانية.