السينما بين الماضي و الحاضر إنكار و اعتراف
بين “بداية ونهاية” و”دماء على الأسفلت”: من حسنين إلى ثناء نور الحسن… تطور الضمير في السينما المصرية.
كتبت: ماريان مكاريوس
في عام 1960، قدم لنا المخرج الكبير صلاح أبو سيف، رائد الواقعية في السينما المصرية، تحفته الفنية الخالدة بداية ونهاية، المأخوذة عن رواية نجيب محفوظ. لم يكن الفيلم مجرد عمل سينمائي، بل كان صرخة اجتماعية تنبش في أعماق الطبقة المتوسطة وما تحتها، وتكشف هشاشة الأخلاق حين تُضغط النفوس بالفقر والعوز.
الفيلم الذي احتل المركز السابع في قائمة أهم 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، لا يحتاج إلى شرح أو تحليل، فقد صار محفورًا في ذاكرة الأجيال. ومن منا لا يتذكر ذلك المشهد المؤلم الذي يُنكر فيه الأخ الضابط “حسنين” أخته “نفيسة” التي انزلقت إلى طريق الرذيلة من أجل لقمة العيش وتربية أخوتها، وعلى رأسهم هو! مشهد يُجسد قمة المأساة والنفاق الاجتماعي، إذ تبرأ منها لأنها “جلبت له العار”، بينما الحقيقة أنها ضحّت من أجله، لكنه لم يتحمل تبعات هذا العار… فآثر الهروب إلى الانتحار.
ثلاثة عقود بعد ذلك، وفي عام 1992، عاد تلميذ صلاح أبو سيف النجيب، المخرج الواقعي طيب الذكر عاطف الطيب، ليقدم عملًا يمكن اعتباره تناصًا فنيًا مع بداية ونهاية، لكن بلغة زمن مختلف وأدوات فكرية تطورت. دماء على الأسفلت لم يكن مجرد فيلم درامي اجتماعي، بل كان إعادة قراءة لفكرة “نفيسة” في زمن جديد، حيث الحرب والانفتاح الاقتصادي واغتراب الأبناء أثّرت على القيم والتوازنات الأسرية.
في الفيلم، نلتقي بشخصية “ولاء”، فتاة اختارت طريق الرذيلة، لا اضطرارًا كنفيسة، بل طواعية من أجل المال واللذة الشخصية، مع بعض الإحساس بالواجب نحو أبيها المسن وأخواتها الصغار. هي ليست ضحية بريئة بالكامل، بل خليط من الضعف والأنانية والعطاء المشوش. لكنها، رغم كل شيء، تمثل الحقيقة المؤلمة التي تعيشها العديد من الفتيات في بيئة تعاني من الانهيار الاقتصادي والقيمي.
أما الأخ الأكبر، الدكتور “ثناء نور الحسن”، فقد هرب في البداية، وابتعد عن العائلة، لكنه عاد في لحظة الحقيقة ليعلنها على الملأ: “نعم، إنها أختي!” إعلان لا يخلو من ألم، لكنه صرخة كاشفة عن تحول اجتماعي وفكري كبير، وعن وعي جديد بالمسؤولية والتقبل.
هنا يكمن الفارق الجوهري بين الفيلمين: في حين انتهت مأساة بداية ونهاية بالإنكار والانتحار، انتهى دماء على الأسفلت بالاعتراف والمواجهة. كأن السينما الواقعية، خلال تلك السنوات، تطورت من البكاء على الواقع إلى الجرأة في فضحه وتحمل تبعاته.
عاطف الطيب لم ينسَ تركة معلمه أبو سيف، لكنه أضاف إليها بُعدًا جديدًا: بدلًا من جلد الذات فقط، منح أبطاله فرصة للمواجهة. بدلًا من الموت، منحهم فرصة للنطق بالحقيقة.
وبين “حسنين” الذي أنهى حياته غارقًا في عاره، و”ثناء نور الحسن” الذي أعلن انتماءه لأخته رغم فضيحتها، نرى كيف يمكن للفن أن يعكس تغير الأزمنة، وتحولات الضمير الجمعي، وأن يحملنا من الظلمة إلى نقطة ضوء.
دماء على الأسفلت ليس مجرد فيلم، بل محطة فكرية ووجدانية تقول لنا إن الاعتراف بالخطأ، أو الخطايا، قد يكون هو بداية النجاة، لا نهايتها. بينما بداية ونهاية ظل درسًا قاسيًا عن الكبت والقهر والموت المجاني.
وهكذا، علمنا صلاح أبو سيف كيف نرى الواقع، وعاطف الطيب كيف نواجهه. وبين الاثنين، ترسم السينما المصرية أجمل ما فيها: الصدق، والشجاعة، والإنسانية.