محطات في حياة الروائي يحيي حقي

محطات في حياة الروائي يحيي حقي

بقلم / سلوى عبد الستار الشامي

يستمد يحيي حقي أهميته لكونه كاتب وروائي مصري ورائداً من رواد القصة القصيرة ، يعد نجم ساطع في سماء الأدب والسينما ، ومن أشهر رواياته قنديل أم هاشم .
ولد يحيي حقي في ١٧ يناير عام ١٩٠٥ بالقاهرة ، بدأ تعليمه في كتاب السيدة زينب ، ثم إلتحق بمدرسة والدة عباس ، وكانت مدرسة مجانية من أوقاف إلهامي باشا وكان يلتحق بها أبناء الفقراء في حين كان أبناء الأغنياء يلتحقون بمدرسة الناصرية ، قضي في المدرسة الإبتدائية خمس سنوات رسب في السنة الأولى الإبتدائية لكنه لم يرسب بعد ذلك قط ، ثم حصل على شهادة إتمام الدراسة الإبتدائية سنة ١٩١٧ ، والتحق بالمدرسة الإلهامية الثانوية ومنها حصل على شهادة الكفاءة ، ثم إنتقل إلى المدرسة السعيدية فالخديوية ، ومنها حصل على البكالوريا سنة ١٩٢١ ، وكان ترتيبه الخمسين بين المتقدمين لتلك الشهادة .
قبل أن يلتحق يحيى حقي بمدرسة الحقوق كان قد إلتقى بمؤلفات المنفلوطي وجبران خليل جبران ، جرى دموعه مع ” ماجدولين ” وترنم بشعر المهجر وهو في الخامسة عشر من عمره ، وقاده أخيه إبراهيم في دروب الأدب الإنجليزي فقرأ كتباً لديكنز وروبرت لويس ستيفنسون وآديسون وغيرهم .
حين إلتحق يحيي حقي بكلية الحقوق كان متشبعاً بمبادئ الحزب الوطني ، فقد كانت اللواء هى جريدة الأسرة المفضلة ، وإن لم يمنعه ذلك من التعلق بسعد زغلول ومتابعة أحداث ثورة ١٩١٩ بحماسة شديدة ، وفي تلك الأيام قرأ كل ماوقع في يديه من كتابات عبدالله النديم ومصطفى كامل ، وكل ما نشر عن حادثة دنشواي .
قضي يحيي حقي فترة التمرين بنيابة الحليفة ثم عمل محامياً بالإسكندرية ودمنهور فترة قصيرة ، وفي أول يناير سنة ١٩٢٧ تسلم عمله الجديد معاوناً للإدارة بمركز منفلوط حيث قضى أهم سنتين في حياته على الإطلاق ، أتيح له خلالهما أن يعرف بلاده وأهلها ويخالط الفلاحين عن قرب ويعيش في الحقول بين نباتها وحقولها ، بل وجد فيها سعادته عندما أصبح الحمار يزامله طول النهار .
بدأ يحيي حقي يكتب في سن مبكرة في حوالى السادسة عشرة ومعظم كتابات تلك المرحلة ساذجة لم يجمعها أو يحتفظ بها ، ثم بدأ يكتب القصة القصيرة وهو طالب بمدرسة الحقوق وبعد تخرجه ، وكان متأثراً في كتابتها بالأدب الروسي أكثر من تأثره بالأدبين الإنجليزي والفرنسي ، لقد وجد في الأدب الروسي أن كل شخص تقريباً مشغول بقضية كبرى هى قضية خلاص الروح .
نشر أوائل قصصه في صحيفة الفجر التي كانت تصدرها المدرسة الحديثة برئاسة أحمد خيري سعيد ، ومن بينها قصة ” السخرية أو الرجل ذو الوجه الأسود ” كتبها وهو واقع تحت تأثير الكاتب الأمريكي إدجار آلن بو ، وأخرى أبطالها من القطط والكلاب إسمها ” فلة ، مشمس ، لولو ” .
تقدم يحيي حقي لمسابقة وظائف أمناء المحفوظات في القنصليات والمفوضيات ونجح وإن جاء إسمه في ذيل قائمة الفائزين ، فصدر الأمر بتعيينه أميناً لمحفوظات القنصلية المصرية في جدة وفيما بين عامي ١٩٢٩ و ١٩٣٠ حدثت في حياته ثلاث أحداث هامة : رأي المسلمين يأتون للحج من جميع أرجاء العالم فيكونون لوحة شاسعة كان لها أقوى الأثر في نفسه ، وهناك درس المذهب الوهابي ومشكلات الحج والكورنتينات وكتب حولها عدة مقالات في مجلة الرابطة الشرقية ، والتقي في جدة بالعقلية الغربية المنظمة ممثلة في بعض رجال السلك الدبلوماسي من أهمهم * سان جون فيليي * المستشرق البريطاني ، وفان مولن قنصل هولندا في جدة وكان هو الآخر مستشرقاً تخصص في وضع الخرائط عن الجزيرة العربية ، وفي تلك الآونة كان النشاط الدبلوماسي قليلاً فقضى يحيى حقي وقت فراغه في مكتبة القنصلية حتى قرأها عن آخرها وفيها اكتشف تاريخه الجبرتي لأول مرة وفتن به أشد الافتتان ، فلم يعرف كاتباً أو مؤرخاً استطاع أن يصور روح الشعب المصري مثله ، ومنذ ذلك الحين وهو شديد الإتصال بالجبرتي ، حتى لقد وقع عدد من مقالاته الأولى بإسمه * عبد الرحمن بن حسن * ، ومن أهمها ست مقالات عن ” الدعابة في المجتمع المصري ” كان الجبرتي مصدره فيها ، ونشرها في جريدة البلاغ .
إنتقل يحيي حقي من جدة إلى استامبول سنة ١٩٣٠ ، وهناك أتيح له أن يترقب من قرب تلك التجربة الخطيرة التي قام بها مصطفى كمال حين حول دولة شرقية إسلامية إلى دولة علمانية حديثة ينفصل فيها الدين عن الدولة ، وفي استامبول إرتدى يحيي حقي القبعة لأول مرة وتعلم أن للقبعات علماً وأصولاً وأن ما يصلح للنهار والرحلات لا يصلح للمساء أو السهرة وأن لكل زي القبعة التى تتناسب معه ، وبذهابه إلى تركيا عاد إلى الأرض التي هاجر منها جده وعثر هناك على أقرباء لهم وسكن عندهم ، كما تعلم التركية على كبر وأتقنها ، وحاول الإتصال بأدباء تركيا وأسعده الحظ بمقابلة الشاعر عبد الحق حامد _ شكسبير تركيا _ في أخريات أيامه ، والشاعر يحيي كمال .
وبعد أربع سنوات حافلة قضاها يحيى حقي في تركيا انتقل إلى روما ، وكما تعلم التركية تعلم الإيطالية ، وأقبل على الأدب الإيطالي يغترف منه وقرأ مسرحية موسوليني الوحيدة ” مائة يوم ” ، وفي تلك السنوات بدأ اتصاله المباشر بالحضارة الأوروبية وأخذ موقف التلميذ في الموسيقى والتصوير والمعارض والمتاحف والمسارح ، وإذا كانت الثقافة في روما وحركة التجديد والنشاط والابتكار لا تبلغ الذروة التي بلغتها في باريس ، عاش فى روما مع أطماع موسوليني وبهلوانيته ، وزار ألمانيا وسمع هتلر وشاهده هو وأعوانه وهم يؤججون الحركة النازية بالشعارات الضخمة ومشية الأوزة .
وطوال تلك السنوات لم ينقطع يحيي حقي عن التفكير في بلاده وأهلها كان دائم الحنين الى الجموع الغفيرة من الغلابة والمساكين الذين يعيشون برزق يوم بيوم وحين عاد إلى مصر سنة ١٩٣٩ شعر بجميع الأحاسيس التي عبر عنها في ” قنديل أم هاشم ” إنها قصة غريبة جداً كتبها في حجرة صغيرة كان مستأجرها في حي عابدين ، ويرجع سبب قوة تأثير” قنديل أم هاشم ” لكونها خرجت من قلب يحيي حقي مباشرة كالرصاصة واستقرت في قلوب القراء بنفس الطريقة .
تقلب في وظائف وزارة الخارجية وشغل فترة وظيفة مدير مكتب البريد ، وعمل مع النحاس والنقراشي ، وفي سنة ١٩٤٢ شغل وظيفة مرموقة وقد بلغ السابعة والثلاثين من عمره ومازال أعزب فتزوج كريمة عبد اللطيف سعودي المحامي وعضو مجلس النواب عن الفيوم ، ولم تدم سعادته معها أكثر من ثلاثة أشهر أصيبت بعدها بمرض خطير مؤلم سحب النور من عينيها وسرعان ما توفيت بعد أن أنجبت له وحيدته ” نهى ” وتركت في نفسه حسرة لا تنقضي .
وأثناء عمله بديوان وزارة الخارجية توثقت صلته بالمحقق البحاثة الأستاذ محمود شاكر وقرأ معه عدداً من أمهات كتب الأدب العربي القديم ودواوين شعره ، ومنذ ذلك الحين وهو شديد الإهتمام باللغة العربية وأسرارها وفي اعتقاده أنها لغة عبقرية في قدرتها على الإختصار الشديد مع الإيحاء القوي .
وفي أبريل سنة ١٩٦٢ تم تعيينه رئيسا لمجلة ” المجلة ” وظل يتولى مسؤليتها حتى ديسمبر ١٩٧٠ ، وطول تلك السنوات حاول أن يحافظ للمجلة عل شعارها الذي اتخذته لنفسها منذ نشأتها ، وهو * سجل الثقافة الرفيعة * ، ولقد نجح في تحول مقر ” المجلة ” إلى ندوة متصلة لا تكاد تنفض ، يشارك فيها عدد كبير من شباب الأدباء والباحثين ، احتضنت المجلة إنتاجهم ، وكان لها شرف تقديم الكثيرين منهم إلى القراؤ لأول مرة .
نال الأديب يحيى حقي جائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة ١٩٦٩ وتشرف بعضوية المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون والعلوم الإجتماعية .
عالج يحيي حقي معظم فنون القول من قصة ث ورواية ونقد ودراسة أدبية وسيرة أدبية ومقال أدبي ، وترجم عدد من القصص والمسرحيات ولكن تظل القصة القصيرة هواه الأول ، لأن الحديث فيها عنده يقوم على تجارب ذاتية أو مشاهدة مباشرة وعنصر الخيال فيها قليل جداً دوره يكاد يكون قاصراً على ربط الأحداث ولا يتسرب إلى اللب ابدأ .
ومنذ إشتغاله بكتابة القصة القصيرة يحاول دائماً العثور على أشكال فنية جديدة ولعل في قصة البوسطجي ( مجموعة ” دماء وطين “) كان أول من استخدم الفلاش باك أي البدء بالأحداث المتأخرة في القصة ، لقد كتب هذه القصة في استامبول ، وفي قصة السلحفاة تطير استخدم الشكل الدائرى فانتهت القصة حيث بدأت ، وقد تكون رواية صح النوم أحب أعماله القصصية إلى نفسه لأنها تطبيق صارم للمبدأ الذي ينادي به في ضرورة إلتزام الدقة والعمق في أسلوب الكتابة .
وإلى جوار القصة والمقال الأدبي لا الصحفي ، أسهم يحيي حقي بقدر لا بأس به في النقد والدراسات الأدبية ، فكتب تاريخ ” فجر القصة المصرية ” بأسلوب درامي يجمع بين الحقائق العلمية والتشويق القصصي ، وإهتم فيه بإبراز المفارقات التي تثير السخرية كقوله عن الدكتور محمد حسين هيكل حينما نشر روابته ” زينب ” بتوقيع ” مصري فلاح ” : إني لم أر رجلا مثله يتنكر حين يتشرف .
وفي مقاله عن مصرع كليوباترا تحدث عن أدق تفصيلات المسرحية فلم يترك حتى الشخصيات الثانوية ، ولقد ساهم في تطوير الكتابة الفكاهية وخير ما يمثلها كتابه ” فكرة فابتسامة” فالفكاهة فيه تقوم على المفارقات العقلية ودقة الملاحظة لسلوك الناس
ورحل عن عالمنا الأديب يحيي حقي فى ٩ ديسمبر عام ١٩٩٢ عن عمر يناهز ٨٧ ، رحل بجسده لكنه مخلداً بتراثه الأدبي
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.