كليات القمة.. بين وهم المكانة وحقيقة المهارة
كليات القمة.. بين وهم المكانة وحقيقة المهارة
بقلم / إيمان سامي عباس
السباق نحو “القمة”: حلم أم فخ اجتماعي؟
من منا لم يحلم يوماً بدخول ما يُعرف بـ”كليات القمة”، أو تمنّى أن يرى أبناءه على قمم المجد كما يراها المجتمع؟ تلك الكليات – كالهندسة والطب والصيدلة والإعلام – تحوّلت في الثقافة المصرية إلى رموز للمكانة، لا لدوائر التعلم. الوصول إليها أصبح أشبه بعبور مستحيل، لا يرتكز إلى موهبة أو شغف، بل إلى مجموعٍ رقمي يُقدَّس ويُطارد بلا هوادة.
أطفالنا يُبرمجون منذ نعومة أظفارهم على أن الطريق الوحيد للنجاح هو التفوق الدراسي بشكله العددي، لا النوعي. هكذا أصبحت كليات القمة مرادفًا للوجاهة الاجتماعية، وساحة لتفاخر العائلات، وأداة للمدارس في تسويق إنجازاتها، بدلاً من أن تكون محض مؤسسات تعليمية لصناعة المستقبل.
خرافة المجد الورقي.. حين تصطدم الأحلام بالواقع
مع صدور نتائج الثانوية العامة، تظهر الفجوة بين الحلم والواقع. تترنح طموحات كثيرة أمام مؤشرات التنسيق، ويُصاب البعض بخيبة الأمل، بينما يظن آخرون أنهم “وصلوا” إلى القمة بالفعل.
لكن، هل فعلاً تحقق المجد المنشود؟ هل أصبح خريجو الطب والهندسة من صفوة القوم؟ الواقع يقول غير ذلك. كثيرون اكتشفوا بعد التخرج أن سوق العمل لا يهتم كثيرًا بالشهادات، بل يبحث عن الكفاءة والمهارة والقدرة على الإبداع والتطور.
وهنا تحدث الصدمة: يجد الشاب نفسه في سباق آخر، هذه المرة من أجل إثبات ذاته في عالم لا يعرف إلا بلغة المهارات، مما يدفع البعض للهجرة بحثًا عن فرص تُقدّر جهده بعيدًا عن أوهام التفوق الورقي.
أزمة ثقافة تعليمية.. ومجتمع لا يحترم التنوع
المشكلة أعمق من مجرد اختيار كلية. هي مشكلة ثقافة تعليمية لا تزال تعيش في الماضي، تُقصي التعليم الفني وتزدري المعاهد التكنولوجية، وتُهدر مواهب الأطفال في البرمجة والفنون والرياضة والحرف.
تلك الثقافة تُرسخ لفكرة واحدة: أن “التفوق” لا يعني إلا درجات، وأن المجموع هو المقياس الأوحد للنجاح، فتقضي بذلك على التنوع وتكرّس لنمطية عقيمة تُفرّخ نسخًا مكررة لا مبدعين.
وتُكرّس المنظومة لهذا الاعتقاد، فيُصبح التنسيق الجامعي أشبه بقدر محتوم، لا يعترف بالقدرة ولا يفسح المجال للتميّز الحقيقي.
إعادة تعريف القمة.. نحو تعليم يصنع الإنسان
ألم يحن الوقت لنُعيد التفكير في معنى النجاح؟ القمة ليست كلية بعينها، بل عقل منفتح، وروح حرة، وقدرة على الابتكار. القمة قد تكون في معمل بسيط، أو مشروع ناشئ، أو حتى في يد أتقنت حرفة نادرة.
علينا أن نُعلّم أبناءنا أن القمة قد تختلف من شخص لآخر، وأن المجموع لا يصنع المجد، بل الشغف والاجتهاد والعمل الحقيقي. فالحياة لا تسير بالشهادات وحدها، بل بالمهارات والخبرات، وبالقدرة على التكيّف في عالم سريع التغير.
ما بعد الوهم.. آن أوان الحقيقة
لقد آن الأوان لتحرير التعليم من أوهام كليات القمة، وبناء فلسفة تعليمية تُعلي من القيمة لا من الورق، تُحتفي بالإبداع لا بالتكرار.
فما أكثر الشهادات التي لم تصنع فرقًا، وما أقل أولئك الذين لم يحملوا سوى أفكارهم وموهبتهم، فصنعوا المستقبل.
كاتبه المقال
الاستاذه: إيمان سامي عباس