فوق سطح الجيران

فوق سطح الجيران

وفاء أنور

في منزل بسيط للغاية تعيش الخالة أم حسن ‘ مع زوجها وأولادها ، كانت تحرص دائمًا على صنع الخبز في منزلها كما اعتادت على ذلك منذ طفولتها وسنوات شبابها الأولى في قريتها ، كان لديها فرنًا بدائيًا ، فوق سطح منزلها ، فالمنزل الصغير به غرفتين في الدور الأرضي ، وطرقة صغيرة تنتهي بأولى درجات سلم خشبي يصل في نهايته إلى سطح المنزل ، إنها تواظب على جمع الأخشاب وبقايا الكارتون والقش وماشابه ذلك من أشياء ، لتستخدمه كوقود لإشعال الفرن .

كانت تقوم بخبز عدد كبير من الأرغفة تكفيها لعدة لأيام ، وتسمح لها أن تهدي بعضها للأصدقاء والجيران ، كانت رائحة الخبز الشهي تجذب الجميع ، فهى كانت بارعة في إعداده بكل ماتحمله كلمة البراعة من معنى .

كانت أبواب المنازل لاتغلق في تلك الأيام ، فالكل كان يعرف جيرانه ويرى فيهم الأخوة ، الأهل ، والأصدقاء ، كان الأمان جليسنا فلماذا نخاف ! ومن من ؟

وفي أحد أيام فصل الصيف الذي قاربت فيه الحرارة على الوصول لأعلى معدلاتها وقبل أذان العصر بدقائق سمعنا صراخًا مدويًا في الخارج دفع بنا وبغيرنا لفتح النوافذ والخروج أمام بوابات المنازل لمتابعة الموقف عن قرب ، وإذا بألسنة اللهب تعلو وتعلو في الهواء ليتلون بلون الدخان القاتم ، تنبعث معه رائحة حريق مزعجة لتملأ الأجواء .

يهرول الرجال إلى داخل منزل الخالة أم حسن وهم يحملون صفائح المياه ويصعدون السلم ، فباب منزلها كالعادة كان مفتوحًا على مصراعيه ، أما أبواب الحجرات فكانت مغلقة ، لم يلتفت أحد حينها للسؤال عنها فكان مايشغلهم فقط هو كيفية تحقيق النجاح في مهمتهم للسيطرة على هذه النيران وإطفائها في أسرع وقت .

استيقظت الخالة أم حسن التي كانت تنعم بالنوم على أصوات متداخلة وحركة غير عادية شعرت بها هى وزوجها ، سبقت خطواتها خطواته فهو كان يكبرها بعدة سنوات ، فتحت باب الحجرة لتشاهد ماالذي يحدث في الخارج ، ثم أسرعت لتصعد على السلم الخشبي لتصل بعد ذلك إلى سطح المنزل ، وفجأة تسمرت في مكانها بعد أن سيطرت عليها الدهشة حين وجدت آثار النيران ، والجميع في حالة من الضجر بعد أن أجهدتهم رحلة إطفاء الحريق وحرمتهم من حالة الاسترخاء بعد أن حالت بينهم وبين أخذهم قسطًا من نوم ساعات القيلولة كالمعتاد .

نظر الجميع إليها وقد انطلقت كلماتهم التي كانت حبيسة صدورهم لتعبر عن ثورتهم ، ثم قال أحدهم لها :” ياخالتي أم حسن مش قلنا لك ألف مرة بلاش حكاية الخبيز في البيت هو في حد دلوقتي بيعمل كده ، ارحمينا من الموضوع ده بقى ، كل شوية ريحة الدخان توصل لنا ، وتكتم نفسنا وكمان النهارده البيت كله كان هيولع هو ده اسمه كلام ! “

استمعت إليه وهى تنظر إلى الأرض ولم تتفوه بكلمة واحدة بعد أن أدركت تفاصيل الموقف ، كانت تتلقف كلماتهم الممتلئة عنفًا وتوبيخًا بهدوء كبير ، فهى برغم بساطتها تمتلك من الدبلوماسية رصيدًا غير عادي مكنها بالفعل من امتصاص غضبهم معبرة لهم عن عظيم أسفها ثم وجهت إليهم جميعًا الشكر ، وأصرت على استضافتهم لكي يستريحوا قليلًا ثم قامت بإعداد الشاي لهم .

تجاذب الجميع أطراف الحديث وبحثوا عن الأسباب كثيرًا ، حتى اكتشفوا بعد مرور شهر تقريبًا أن أحد الجيران هو الذي كان يدخن سيجارته في شقته المقابلة لسطح الخالة أم حسن ، وبأنه هو من ألقى بعقب سيجارته من الشباك دون أن يلقي بالًا لما فعله من سلوك غير صحيح ومرفوض في نفس الوقت .

مرت فترة طويلة ، وفي أحد أيام فصل الشتاء وبعد عودتنا من مدارسنا جلست أنا وأخوتي لنتناول طعام الغداء ، وماهى إلا ثوان قليلة حتى سمعنا صراخًا ، وهممنا أن نقوم من مكاننا لنشاهد ما الذي يحدث بالخارج ، فجاء رد أمي على ذلك بكل هدوء : رايحين على فين ، اقعدوا كملوا غداكم دي أكيد حريقة جديدة على سطوح أم حسن .

اعتدنا الموقف وتكراره ، فكلما وجدنا الناس تهرول وهى تحمل معها أوعية مملوءة بالمياه أدركنا حقيقة الأمر وترجمناه من دون سؤال ، ولكن الموقف الأغرب هو عناد تلك المرأة التي لم تغير عاداتها رغم مرور عقود من الزمان .

فوق سطح الجيران

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.