“ضيّ” فيلم يواجه التنمّر ويعيد الاعتبار للمختلف في سينما كريم الشناوي
كتبت: ماريان مكاريوس
ضي .. في زمن باتت فيه السينما العربية محاصرة بين الترفيه التجاري والموضوعات الخفيفة، يطل فيلم ضي (سيرة أهل الضي) ليعيد تعريف وظيفة الفن السابع كأداة إنسانية للنقاش المجتمعي وكشف المسكوت عنه. العمل الذي أخرجه كريم الشناوي وكتبه هيثم دبور، لا يكتفي بسرد حكاية طفل نوبي ألبينو يواجه التنمّر، بل يُقدِّم معالجة شاعرية، ممتزجة بالموسيقى والصورة والرمزية، ليصبح أكثر من مجرد فيلم؛ إنه صرخة ضد الإقصاء ونداء لقبول المختلف.
لا يمكن النظر إلى ضي باعتباره مغامرة منفصلة في مسيرة كريم الشناوي. هذا المخرج الشاب رسم لنفسه خطًّا واضحًا منذ بداياته، يضع الطفولة وما تواجهه من ضغوط اجتماعية ونفسية في قلب أعماله. ففي مسلسل خلي بالك من زيزي تعاطى مع قضية اضطراب فرط الحركة (ADHD)، مقدّمًا صورة إنسانية لأطفال يعانون من سوء الفهم المجتمعي. وفي الهرشة السابعة و مشاكل روتين الزواج، بينما في لام شمسية اقترب من قضايا التحرش بالأطفال و التصدي لها.
يأتي ضي ليكمل هذه السلسلة، لكن بجرأة أكبر، حيث يضع التنمّر على اختلاف مظهري في صلب الحكاية، ليُحول القصة من مأساة فردية إلى سؤال جماعي: كيف نتعامل مع المختلف في مجتمع لا يقبل بسهولة بالخروج عن النمط.
سخرية زملائة وإكتشاف موهبته
ضي يحكي عن طفل نوبي وُلد مصابًا بالمهق، بلون بشرة وشَعر يختلف عن محيطه.
هذا الاختلاف يجر عليه سخرية زملائه ونظرات الآخرين، فيعيش بين خوف الأم المبالغ في الحماية، ودعم الأخت المتردد، وتشجيع معلمته التي ترى فيه موهبة غنائية فريدة.
حين تلوح أمامه فرصة للمشاركة في برنامج لاكتشاف المواهب، تنطلق رحلة من أسوان إلى القاهرة خلال 48 ساعة فقط، رحلة تختلط فيها المغامرة بالألم، والخوف بالأمل، لينكشف أمام المشاهد عالَم من التناقضات الاجتماعية والنفسية.
استخدم المخرج كريم الشناوي لغة بصرية شاعرية تُحوِّل الضوء والظل إلى شخصيات موازية. النوبة، بجبالها ونيلها وألوانها، لم تكن مجرد خلفية بل عنصرًا فاعلًا في السرد. الضوء الطبيعي يعكس براءة الطفولة، بينما الظلال القاسية تجسد التنمّر والنظرات الجارحة.
الموسيقى، خصوصًا أغاني محمد منير، لم تكن مجرد زخرفة، بل جسرًا يربط بين الحلم والواقع. حضور منير على الشاشة منح الفيلم رمزية خاصة، فهو الصوت الذي طالما مثّل الجنوب والحرية، ليصبح ظهوره في ضي امتدادًا لرسالة الفيلم الإنسانية.
أبدع الطفل بدر محمد في دور ضيّ، مقدمًا أداءً صادقًا يخلو من التصنع. قدرته على التعبير بالعينين والملامح جعلت المشاهد يتعاطف معه منذ اللحظة الأولى. أما إسلام مبارك، فقدمت شخصية الأم التي تتأرجح بين الحب المفرط والرغبة في حماية ابنها حتى من نفسه، فخلقت شخصية مركبة وواقعية.
أسيل عمران وحنين سعيد أضافتا أبعادًا داعمة لشخصيات محورية، بينما جاء ظهور أحمد حلمي ومحمد منير كضيوف شرف ليمنح الفيلم دفعة جماهيرية ورمزية، دون أن يطغى على الحكاية الأصلية.
يتجاوز ضي كونه قصة فردية، ليطرح أسئلة كبرى عن التنمّر والاختلاف وقبول الآخر. التنمّر هنا ليس فقط فعلًا فرديًا يقوم به طفل أو زميل، بل منظومة كاملة تبدأ من المدرسة، مرورًا بالعائلة، وصولًا إلى نظرة المجتمع ككل. الفيلم يؤكد أن الفن والحلم يمكن أن يكونا أداة لمقاومة هذا القمع، وأن الطفولة ليست مجرد مرحلة زمنية، بل مساحة تُحدد مستقبل المجتمع برمته.
الأداء الصادق خصوصًا من بطل الفيلم بدر محمد، الذي حمل عبء العمل ببراءة طبيعية.
وللجماليات البصرية توظيف مبدع للضوء والظل، وتصوير النوبة بطريقة شاعرية.
الموسيقى والرمزية بدمج أغاني محمد منير كجزء من نسيج الفيلم.
و للبُعد الإنساني رسالة واضحة في فيلم ضي عن حق المختلف في الحلم والحياة الكريمة.
السرد في النصف الثاني من الفيلم تخلله بعض الضعف بسبب الاعتماد على الصدف والمصادفات الدرامية.
سيرة أهل الضي
بعض الشخصيات الثانوية لم يُمنح لها العمق الكافي، فبدت أقرب إلى رموز عابرة.
الإيقاع في البداية كان بطيئًا، مما جعل الانطلاقة أقل حيوية مما هو متوقع.
رغم هذه التحفظات، يظل ضي فيلمًا مفصليًا في مسار السينما المصرية والعربية.
إنه يفتح الباب أمام نوع جديد من الأفلام التي توازن بين الرسالة الإنسانية والجاذبية البصرية، بين الطرح الجاد والجاذبية الجماهيرية. الأهم أنه يعيد الاعتبار للطفولة، باعتبارها مرآة لمستقبل المجتمع، ويؤكد أن قبول الاختلاف ليس ترفًا، بل ضرورة للبقاء.
ضي (سيرة أهل الضي) ليس مجرد فيلم، بل تجربة وجدانية تبقى مع المشاهد بعد انتهاء العرض.
إنه تذكير بأن الفن يمكن أن يكون فعل مقاومة، وأن الحلم قادر على كسر أسوار التنمّر والتمييز. بهذا المعنى، يواصل كريم الشناوي مسيرته في تحويل السينما إلى مساحة للتأمل والمواجهة، جاعلًا من الطفولة نافذة على مستقبل أكثر رحمة وقبولًا.