“دولة التلاوة”: مشروع نهضوي لإحياء فن القراءة القرآنية وصناعة جيل جديد من القرّاء

 

بقلم/ إيمان سامي عباس

 

تُعدّ “دولة التلاوة” واحدة من أبرز المبادرات القرآنية التي شهدتها الساحة الدينية والثقافية في الأشهر الأخيرة، تحت رعاية وزارة الأوقاف والشركة المتحدة. جاءت هذه المبادرة استجابةً لحاجة ملحّة إلى إعادة الاعتبار لفن التلاوة، وإحياء قيمة الاهتمام بالقرآن الكريم، ليس كعبادة فقط، بل كفنّ له أصوله وقواعده ومكانته التي صنعها كبار القرّاء على مرّ العقود.

 

تمثّل المسابقة نقلة نوعية في عالم البرامج القرآنية، إذ لا تبحث عن جمال الصوت فقط، ولا عن إتقان الأحكام فحسب، بل عن قارئٍ يحمل رسالة، يمثل “دولة” رمزية تستعيد ريادة المدرسة المصرية والعربية في التلاوة. وتقوم فكرة البرنامج على جمع نخبة القرّاء من مختلف المحافظات والدول، ليخوضوا مراحل متعددة تُظهر قدراتهم الصوتية والمقامية وضبط المخارج، إضافة إلى حضورهم وتأثيرهم أثناء الأداء.

قوة المسابقة تكمن في اعتمادها على “التجويد الشعوري”، الذي يمزج بين العلم والإحساس، حيث لا يكتفي القارئ بقراءة الحروف، بل يتفاعل مع المعاني القرآنية بروحانية تنفذ إلى قلوب المستمعين.

 

 أثر المسابقة ودورها الثقافي والإعلامي والديني

 

تأتي مسابقة دولة التلاوة في وقت يشهد فيه العالم الإسلامي تحديات كبيرة في المحتوى الديني، خصوصًا مع انتشار الوسائط الرقمية وتعدد الأصوات غير المؤهلة. لذلك مثّلت المسابقة خطوة جادة لإعادة المعايير المهنية إلى ساحة التلاوة، من خلال لجان تحكيم تضم كبار المتخصصين في المقامات والتجويد وقراء لهم تاريخ حافل بالإقراء والإجازات، مما منح البرنامج مصداقية لافتة وجاذبية واسعة للمتسابقين الجادّين.

 

وساهمت المسابقة في تقديم جيل جديد يجمع بين أصالة المدرسة التقليدية وحداثة الأداء المعاصر، وهو ما يبحث عنه المتلقي الحديث الذي يريد قارئًا يفهم المعنى ويختار المقام المناسب ويتفاعل مع النص روحياً وفنياً. كما أعادت المسابقة إحياء ذكر كبار القرّاء مثل الشيخ رفعت والحصري والمنشاوي وعبد الباسط والبنا، مستلهمة من أساليبهم دون الوقوع في فخ التقليد، بل مع الحرص على إبراز “بصمة خاصة” لكل قارئ.

 

أثّرت المسابقة في المجتمع تأثيرًا مباشرًا، خاصة بين الشباب، إذ ازداد الإقبال على حلقات التحفيظ ودروس المقامات بعد انتشارها، مما يدل على أن تقديم القرآن بأسلوب معاصر يمكن أن يجذب الأجيال الجديدة دون المساس بوقاره وأصالته. كما شهدت الحلقات النهائية حضورًا جماهيريًا واسعًا ومتابعة رقمية ضخمة، تؤكد أن الأمة ما زالت تحيا بالقرآن وتلتف حول جمالياته.

 

وللمسابقة بُعد ثقافي ودبلوماسي مهم، إذ يشارك فيها قرّاء من مختلف الدول العربية والإسلامية، بل ومن دول غير عربية، ما يجعلها ساحة للتواصل الحضاري والديني، ويُبرز دور الدولة المنظمة كحاضنة لفن التلاوة العالمي.

 

ورغم النجاح الكبير، يبقى التطوير ضرورة، مثل توسيع قاعدة التدريب، وإنشاء مدارس متخصصة داخل البرنامج لتخريج قرّاء يحملون مشروعًا طويل المدى، إضافة إلى تعزيز الجانب التفسيري في التقييم ليكون الأداء أكثر التصاقًا بمعاني الآيات.

 

إن مسابقة “دولة التلاوة” ليست مجرد منافسة، بل مشروع نهضوي لإحياء فن التلاوة وبناء جيل يجمع بين العلم والصوت والإحساس. إنها دولة رمزية بحدود تمتد إلى كل قلب يأنس بسماع كلام الله، وكل موهبة تسعى لتكون جزءًا من هذا الإرث العظيم

كاتبه المقال/ إيمان سامي عباس

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.