دموع الطريق الإقليمي .. بنات المنوفية في وداعٍ لا عودة منه
في صباحٍ حزين، وعلى مسافة من الحقول التي كبرن فيها، وبين طرقٍ لم تعرف إلا تعبَ العاملات في صمت، وقعن فتيات المنوفية ضحايا القدر والطريق والإهمال على الطريق الإقليمي تابع الخبر على أخبار مصر.
كتبت ماريان مكاريوس
18 زهرة من قرية “كفر السنابسة” بمركز منوف، خرجن في ميكروباص صغير يحمل أحلامهن المتعبة، متجهات إلى عملهن في مصنع بأشمون. لم تكن الرحلة طويلة، لكن الموت كان أسرع من الوصول.
الجمعة، 27 يونيو 2025، والقرية تبدأ يومها كالمعتاد. كاميرا مراقبة رصدت لحظات عادية: ضحكات خافتة، عُلب إفطار، سلامات سريعة من الأمهات على العتبة، وعيون البنات نصف نائمة، نصف متحمسة. ثم اختفى الميكروباص عن الكادر… إلى الأبد.
اقرأ ايضا: الإمارات تمد شريان حياة للقطاع الصحي الفلسطيني عبر “الفارس الشهم 3”
على الطريق الإقليمي، أمام قرية مؤنسة، وفي لحظة قاتلة، اصطدمت شاحنة نقل ثقيلة (تريلا) بالميكروباص الذي يقل الفتيات. الارتطام كان مروّعًا، الحطام تناثر، والوجوه الجميلة تحولت إلى أرقام في كشوفات المستشفيات.
ماتت الفتيات جميعًا، إلى جانب السائق الشاب أدهم محمد، ابن قرية طملاي، والذي كان يكدّ في عمله الجديد. فتى في العشرينات من عمره، لم يكن يعرف أن تلك هي رحلته الأخيرة.
أسماء أصبحت ذكرى
على قوائم المستشفيات، كُتبت أسماء الضحايا في أوراق موقّعة بدموع الأطباء، “ميادة، آية، هدير، شيماء، جنى، سمر، إسراء، ضحى، سارة، ملك، تقى، هنا، مروة”، فكل اسم يحمل خلفه قصة عائلة، أم تنتظر رسالة، وأب يوصي بألا تتأخر، وجدّة توضّب الغداء على الموقد.
اقرأ ايضا: أمل الصاوى نجمة صامته شاركت نور الشريف وإعتزلت بعد نجاح
البعض منهن لم تتجاوز الرابعة عشرة، خرجن ليس حبًا في التعب، بل سعيًا وراء جنيهات بسيطة تساعد البيت على العيش. هؤلاء البنات لم تكن لهن مطالب كبيرة… لم يطلبن سوى الأمان.
“كفر السنابسة” تبكي
مشهد الجنازة في “كفر السنابسة” لن يُمحى من ذاكرة من رآه، 18 نعشًا أبيضًا، مصطفّين كأنهم صف مدرسي أبدي، تحيطهم نساء منهارات ورجال عاجزون عن الكلام، وصراخ الأمهات لم يكن صراخًا عاديا، بل كأنه احتجاج على عالم لم يرحم الفقراء، “أنا لسه مشمّماها قبل ما تنزل”، “كانت بتضحكلي”، “قالتلي هاجيبلك هدية النهارده”… عبارات اخترقت جدران المساجد والجدران، وسكنت القلوب.
أين الخطأ؟ من المسؤول؟
التحقيقات الأولية أشارت إلى أن سائق الشاحنة ربما غلبه النوم، ما أدى إلى انحرافه واصطدامه بالمركبة الصغيرة.
النيابة تحفظت عليه وأمرت بفحصه طبياً للتأكد من خلوّه من أي مواد مخدرة أو منومة، ولكن، هل المسؤول هو فقط السائق؟
الطريق الإقليمي، رغم أهميته، يعاني من سوء التنظيم، غياب الرادارات، كثافة الحمولات، وعدم الالتزام بالحارات المرورية.
الحادث ليس الأول، وللأسف قد لا يكون الأخير.
أحلام لم تكتمل
معظم الفتيات كن يعملن في مصنع للخياطة أو التغليف منهم طالبة الهندسة و التمريض . يحلمن بتجهيز أنفسهن للزواج، مساعدة إخواتهن، أو شراء هاتف جديد بكاميرا أو مصروف لأخو صغير، أحلام متواضعة، لكنها اختنقت تحت عجلات التريلا.
ماذا بعد؟
محافظة المنوفية أعلنت الحداد، والمسؤولون توافدوا إلى المستشفيات والجنازات، ووعدوا بـ”محاسبة المسؤولين”.
لكن الأهالي لا يريدون كلمات رنانة، بل يريدون طرقًا آمنة، قوانين صارمة، وتدخلًا جادًا يضمن ألا تتكرر الكارثة.
إنهن بنات الريف، لا يعرفن المظاهرات ولا المنصات، لا يحملن يافطات تطالب بالحقوق، لكن أجسادهن المنهكة كانت كفيلة بأن تهزّ مصر كلها.
لم يستسهلوا الرزق بل طلبوه بالكد و العرق، وجنازتهن كانت مظاهرة صامتة، صادقة، أقوى من عشرات المؤتمرات الصحفية.
وفي النهاية، لا نملك إلا أن نكتب، وأن نبكي، نكتب لأننا لا نملك إلا الكلمة، ونبكي لأننا فقدنا أجمل ما في هذا الوطن: بناته اللي بيشيلوا الحياة على أكتافهم، ويسيروا للطريق، حتى لو الطريق مش آمِن.
رحمة الله عليكن يا عرائس الجنة، ولتكن ذكراكن جرس إنذار لا يصمت.