خلف بريق الأصفر.. قصة الذهب بين بساطة الورش وفخامة العرض
اليوم كان مختلفًا تمامًا، فقد وجدت نفسي داخل عالم سحري ساحر، لكنه في الوقت نفسه مليء بالتعب والمشقة، عالم “صناعة الذهب”، ولم يكن الأمر مجرد مشاهدة بريق المعدن الأصفر الذي يأسر العيون، بل كان رحلة عميقة تبدأ من لحظة الانصهار وحتى التشكيل، رحلة تشرح معنى الصبر والإبداع، وتكشف عن أسرار مهنة تُعتبر من أعرق وأصعب المهن في تاريخ البشرية.
تقرير/ زينب النجار
البداية.. النار التي تمنح الحياة
بدأت الرحلة من داخل ورش صغيرة، لكنها أشبه بمصنع متكامل قديم يقع بمنطقة الحسين حي الصالحية، وما إن تطأ قدماك هذا المكان حتى تشعر بالدهشة، المبنى قديم الطراز، جدرانه باهتة كأنها تحمل آثار الزمن، وأرضيته غير ممهدة كما لو كنت تدخل إلى مخزن قديم أو بيت تراثي منسي.
لا يخطر ببالك لحظة أنه مصنع للذهب أو ورشة لصياغته. الغرابة تملأ المكان؛ أدوات متناثرة، أفران تقليدية بدائية الشكل، وأجواء يغلب عليها الغبار والدخان. لكن خلف هذا المشهد البسيط، تولد أعظم التحف الذهبية التي تلمع فيما بعد في أرقى المحلات وتزيّن أعناق وأيادي الناس، إن التناقض بين بساطة المكان وعظمة ما يُنتج داخله هو ما يجعل التجربة مدهشة حقًا.
وتُلقى قطع الذهب الخام في أفران هائلة الحرارة، يذوب المعدن الصلب ويتحول إلى سائل لامع متوهج، يذكرك بلهيب الشمس حين يقترب منك. في تلك اللحظة، شعرت أنني أمام ولادة جديدة للذهب، يولد من قلب النار ليبدأ رحلته في التحول إلى قطع فنية نفيسة.
ورغم بساطة المكان وقدمه، إلا أنك تُفاجأ بالعمال الذين لا يعرفون للراحة طريقًا. وجوه متعبة لكنها صامدة، وأيادٍ مشققة من أثر النار والأدوات الحادة، يواصلون العمل لساعات طويلة قد تصل إلى 12 ساعة يوميًا بلا توقف تقريبًا. ترى في عيونهم إصرارًا عجيبًا على إتقان كل تفصيلة صغيرة، وكأنهم يسابقون الزمن ليخرج الذهب في أبهى صورة. إنهم أشبه بفرسان معركة لا يملّون، يواجهون النار والحرارة والتعب بصمت، مدفوعين بشغف المهنة وثقل أمانتها.

التشكيل.. أصابع صُنعت من الصبر
بعد الانصهار تأتي مرحلة التشكيل، وهنا يبدأ التحدي الحقيقي. الحرفيون، بخبرة السنين وعيونهم الدقيقة، يقفون أمام الكتلة الذهبية السائلة وكأنهم رسامون يمسكون بريشة، لكن ريشاتهم ليست سوى أدوات حادة ومطرقة ونار. يتعاملون مع الذهب وكأنه كائن حي، يطوّعونه برفق وصبر حتى يتخذ شكله النهائي.
الأمر ليس سهلًا كما يعتقد البعض. فكل خطأ بسيط قد يفسد القطعة كاملة، وقد يتطلب الأمر إعادة العملية من البداية. وهنا يظهر الوجه الحقيقي لصعوبة صناعة الذهب: إنها مهنة تحتاج إلى دقة متناهية، وصبر طويل، وأيدٍ اعتادت على الألم والحرارة.
صناعة صعبة.. لكنها غالية وباقية
حين تنظر إلى قطعة ذهبية معروضة في واجهة محل أنيق، تراها متلألئة، ناعمة، تأسر قلبك بجمالها. لكن قليلون فقط من يتخيلون حجم المشقة والعرق الذي يقف خلف تلك اللمعة، كل حلية ذهبية هي في الحقيقة لوحة فنية مرسومة بالنار والجهد، وممهورة بتوقيع صانع مجهول وضع قلبه وخبرته في كل تفصيلة صغيرة.
صناعة الذهب ليست مجرد مهنة، بل هي حرفة ممتدة منذ آلاف السنين. ورغم تطور الآلات والتكنولوجيا، لا يزال الجانب اليدوي فيها أساسًا لا غنى عنه. فالفن والإبداع لا يمكن للآلة أن تحل مكانه بالكامل. وربما لهذا السبب ما زال الذهب يحتفظ بمكانته الرفيعة بين المعادن، ليس فقط لقيمته المادية، بل لأن وراءه قصة تعب وشغف وإتقان.
خرجت من المكان وأنا أنظر إلى خاتم ذهبي صغير رأيته يُشكَّل أمامي. لم يعد مجرد قطعة حُلي، بل صار في عيني حكاية كاملة: من النار والصهر، إلى العرق والتعب، حتى يصبح رمزًا للجمال والقيمة. أدركت أن صناعة الذهب ليست سهلة أبدًا، بل هي مهنة شاقة لا يتقنها إلا أصحاب الصبر والفن والإصرار، لكنها في النهاية تمنحنا ما لا يُقدَّر بثمن: بريق لا يخبو.