الكذب بين الحاجة النفسية والإنحدار الأخلاقي
الكذب بين الحاجة النفسية والإنحدار الأخلاقي
بقلم/ زينب محمد شرف
يُعد الكذب ظاهرة إنسانية معقدة، تتجاذبها الدوافع النفسية والإعتبارات الأخلاقية، فمنذ الطفولة يبدأ الإنسان في اكتشاف قدرة اللغة على التلاعب بالواقع، ومع مرور الزمن، يصبح الكذب أداة تُستخدم لأغراض متعددة، وحماية الذات، الهروب من العقاب ، أو تحقيق مكاسب شخصية.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا ، هل الكذب مجرد اضطرار نفسي أملته الحاجة، أم أنه انحدار أخلاقي يعبرعن خلل في القيم والمبادئ؟
أولًا: الكذب كحاجة نفسية
آلية دفاع نفسي، في علم النفس، يُصنف الكذب أحيانًا كآلية دفاعية يلجأ إليها الإنسان شعوريًا لحماية نفسه من القلق أو الشعور بالذنب أو الإحراج، وعلى سبيل المثال قد يكذب الطفل لتجنّب العقاب، أو يكذب الموظف لتفادي فقدان وظيفته، أو قد يكذب الفرد أمام من يحب لإخفاء ضعف ما أو لتجميل صورة الذات.
الكذب كأداة للتكيف الاجتماعي
يذهب بعض علماء النفس إلى اعتبار الكذب وسيلة للتكيّف مع المجتمع، خصوصًا في المواقف التي تتطلب “مجاملة اجتماعية” أو إخفاء مشاعر سلبية قد تؤذي الآخرين، وفي هذه الحالات قد لا يُنظر إلى الكذب على أنه شرّ مطلق، بل كوسيلة لبناء علاقات اجتماعية أكثر سلاسة.
ثانيًا: الكذب كأداة للانحدار الأخلاقي
الكذب وتفكك القيم، عندما يصبح الكذب عادة أو أسلوب حياة، يتحوّل من حاجة نفسية مؤقتة إلى مؤشر إنهيار أخلاقي، فالكاذب لا يضلل الآخرين فحسب، بل يضلل نفسه أولًا، ويُسهم في تآكل الثقة الاجتماعية، ويضعف أساس العلاقات القائمة على الصدق والاحترام.
الكذب والمجتمع
في المجتمعات التي ينتشر فيها الكذب، يصبح من الصعب التمييز بين الحقيقة والزيف، ويشيع التلاعب، وتنهار المعايير الأخلاقية، وبالتالي فإن شيوع الكذب لا يُضعف فقط الأفراد، بل يهدد نسيج المجتمع بأكمله، ويجعل القيم مثل الصدق، والنزاهة في مهب الريح.
ثالثًا: الكذب في ميزان الأخلاق، والدين
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ”عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يُكتب عند الله صِدِّيقًا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذّابًا”، وهو ما يدل على أن الصدق لا يُعد مجرد قيمة إنسانية، بل هو التزام دينى ايضًا.
رابعًا: هل يمكن تبرير الكذب؟
الكذب الأبيض، رغم رفض الكذب بشكل عام، إلا أن بعض الفلاسفة وعلماء الأخلاق يبررون ما يُسمى بـ”الكذب الأبيض” في حالات محددة، مثل الكذب لإنقاذ حياة إنسان، أو لتجنّب ألم نفسي حاد، أو لحماية شخص بريء من ظلم، وهنا يبرز البُعد الأخلاقي المعقّد للكذب، حيث يُقاس الفعل ليس فقط بنيّته، بل بنتائجه كذلك.
الكذب في السياسة والإعلام، من أخطر صور الكذب، تلك التي تُمارَس على نطاق واسع في السياسة أو الإعلام، والتي تهدف إلى التضليل وتزييف الوعي الجماهيري، فهذا النوع من الكذب يتجاوز الشخصي ليصبح جريمة في حق الحقيقة، وحرية الإنسان في المعرفة والاختيار.
ومن هذا المنطلق، الكذب ظاهرة مركّبة لا يمكن اختزالها في بعد واحد، فقد يكون أحيانًا استجابة نفسية لحالة ضعف أو تهديد، لكنه عندما يتحوّل إلى نمط سلوكي دائم، يصبح مظهرًا من مظاهر الانحدار الأخلاقي الخطير.
وبين الحاجة النفسية والانهيار القيمي، يظل الصدق هو الركيزة التي تحافظ على توازن النفس واستقامة المجتمع، ومن هنا فإن التوعية بأضرار الكذب، وتعزيز قيمة الصدق، يُعدان من الضرورات الأخلاقية والتربوية التي لا غنى عنها في زمن تكثر فيه الأقنعة وتتشوّه فيه الحقائق.
“الكذب لا يصبح حقيقة لمجرد أن كثيرين يصدقونه” – أفلاطون، وختامًا الكذب سيف ذو حدين، يجرح من يُصدقه ومن يقوله، ومن كذب مرة، يصعب أن يُصدق ولو قال صدقًا ألف مرة.
كاتبة المقال
الباحثة/ زينب محمد شرف