السلام النفسي.. طريق السعادة الحقيقية والتصالح مع الذات
بقلم/ ايمان سامي عباس
السلام النفسي.. يبحث الإنسان منذ أن وُجد على هذه الأرض عن السعادة، ويظنها تارة في المال، وتارة في الشهرة، وأحيانًا في السلطة أو الجاه، لكنه سرعان ما يكتشف أن كل ذلك لا يمنحه سوى سعادة عابرة، تخبو مع أول هزةٍ أو خيبة. أما السعادة الحقيقية فهي حالة من السكون الداخلي والرضا العميق، تُعرف باسم السلام النفسي، ذلك الكنز الثمين الذي يفتقده كثير من الناس، ولا يناله إلا من وفّقه الله.
السلام النفسي ليس هروبًا من الواقع، بل تصالح صادق مع النفس ومع القدر، وقبول بأن الحياة مزيج من الفرح والحزن، ومن العطاء والابتلاء. إنه أن تنظر إلى ما لديك لا إلى ما فقدت، وأن تشكر الله على ما وهبك بدلاً من أن تتحسر على ما حرمك. فمن رُزق الطمأنينة في قلبه، ملك الدنيا بما فيها، ولو عاش بأبسط الإمكانيات.
يولد السلام النفسي حين يفهم المرء ذاته، ويغفر لنفسه أخطاءها، فلا يجلدها ولا يقسو عليها، بل يعلّمها أن تكون أقوى بالحلم لا بالغضب، وبالصفح لا بالانتقام. وعندما تتوازن النفس بين الرضا والطموح، وبين الأخذ بالأسباب والتسليم للمكتوب، يتحقق فيها ذلك الصفاء الذي يملأ القلب راحةً لا يضاهيها شيء.

صفاء القلوب أعظم أسباب الطمأنينة
المتصالح مع نفسه يعيش بقلبٍ نقي لا يعرف الحقد ولا الحسد، يرى الخير في الناس، ويسعد لنجاحهم، ويتمنى لهم البركة فيما رزقهم الله. إن صفاء القلب لا يعني ضعف الشخصية، بل قوة الروح، لأن أقوى الناس هو من يملك نفسه عند الغضب، ويكتم غيظه في لحظة الانتقام.
وقد روى الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم بشّر رجلاً بالجنة، فتعجبوا من أمره، إذ لم يكن كثير الصيام ولا القيام كغيره، فلما سألوه عن سرّ تلك البشرى، قال: “لا أبيت وفي قلبي غلٌّ على أحدٍ من المسلمين.”
فكانت طهارة القلب أعظم عبادة أوصلته إلى الجنة، لأنها نتيجة طبيعية للإيمان الصادق وأداء الفرائض بروحٍ مخلصة، لا بروتينٍ جسدي خالٍ من النية.
ويذكّرنا الله سبحانه وتعالى في قوله الكريم من سورة الزخرف، الآية ٣٢:
“أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ”صدق الله العظيم.
فمن تأمل هذه الآية أدرك أن الله هو من وزّع الأرزاق بين عباده، فليس لأحدٍ أن يحسد غيره، لأن لكل إنسان نصيبه الذي قُدّر له. والرزق ليس مالاً فقط، بل علمٌ نافع، وعقلٌ راجح، وصحةٌ طيبة، وأهلٌ محبون، وسيرةٌ حسنة، وقلبٌ راضٍ مطمئن. كلها نعم عظيمة لا تُقدّر بثمن.
من هنا، يفقد الإنسان سلامه الداخلي حين ينظر إلى ما في أيدي الآخرين، فينسى أن الله منحه ما هو أنسب له وأكمل لحكمته. ولو آمن الناس بهذه الحقيقة، لعمّ الرضا، وخفّ التنافس المريض، وزادت المودة بين القلوب.

قوة التسامح وثمار الرضا بالقضاء والقدر
التسامح هو ذروة القوة الإنسانية، لأنه لا يصدر إلا من نفسٍ سامية تعلم أن الغضب لا يغيّر شيئاً من الواقع، وأن الحقد لا يشفي جرحاً بل يضاعفه. المتسامح هو من يختار السلام بدلاً من الصراع، والسكينة بدلاً من القسوة، وهو الأقدر على العيش بسعادة مهما تغيرت الظروف.
وقد جعل الله جزاء الإحسان إحساناً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “من فرّج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة.” فالمعروف لا يضيع، والرحمة التي تُمنح للناس تعود على صاحبها أضعافاً مضاعفة.
إن قضاء حوائج الناس نوع من الرزق، والتعاون على الخير سبب لرحمة الله ورضاه. فإذا أردت رحمة الله فارحم عباده، وإذا رغبت في المغفرة فابدأ أنت بالعفو، واغسل قلبك من الحقد قبل أن تطلب الطهارة من غيرك.
كن على يقين أن كل ما يحدث لك مقدّر بحكمة، حتى ما تكرهه اليوم قد يكون خيراً غداً. لذلك لا تحمل في صدرك ضغينة، ولا تُتعب نفسك بمحاولة تبرير أفعالك أو تغيير آراء الناس عنك، فالله وحده يعلم السر وأخفى.
إن ما تخسره في سبيل سلامك النفسي ليس خسارة، بل فوز عظيم. فحين تتنازل عن الجدل، وتغفر الزلات، وتتوقف عن مقارنة نفسك بالآخرين، تنجو من دوامة القلق، وتعيش حراً من قيود الغضب والغيرة والتنافس.
التسامح مع النفس والآخرين هو الطريق الأقصر إلى راحة القلب، لأنه يُطهّر الداخل من السموم التي تُتعب الروح. وهو فنٌ لا يمتلكه إلا من امتلأ قلبه بذكر الله، فكان لسانه يسبّح وقلبه يرضى.
اللهم اجعلنا من المتسامحين الصادقين، وامنحنا نعمة التصالح مع أنفسنا، وارضَ عنا رضًا يملأ قلوبنا طمأنينة ونوراً.
كاتبه المقال
إيمان سامي عباس