التوقيت الشتوي.. بين إيقاع الطبيعة ومتطلبات الاقتصاد

 

كتبت /ماريان مكاريوس 

 

التوقيت الشتوي  .. تعود الليلة، عند حلول الساعة الثانية عشرة منتصف الليل، عقارب الساعة للوراء ستين دقيقة، إيذانًا ببدء التوقيت الشتوي رسميًا في مصر، وعودة الإيقاع الزمني الطبيعي الذي يتوافق مع قصر ساعات النهار وبرودة الطقس. وبرغم أن هذا التغيير الزمني يبدو بسيطًا، فإنه يحمل أبعادًا اقتصادية واجتماعية ونفسية تتجدد كل عام مع قدوم فصل الشتاء.

 

جذور الفكرة وبدايات التطبيق

 

يرجع أصل فكرة تغيير التوقيت إلى القرن الثامن عشر، حين اقترح العالم والسياسي الأمريكي بنجامين فرانكلين عام 1784، في مقال طريف، تقديم الساعة لتقليل استهلاك الشموع في المساء. ورغم أن اقتراحه كان ساخرًا، فقد فتح باب النقاش حول إمكانية الاستفادة من ضوء الشمس الطبيعي بصورة أفضل.

وفي نهاية القرن التاسع عشر، قدّم عالم الحشرات النيوزيلندي جورج فيرنون هدسون فكرة عملية لتقديم الوقت ساعتين في الصيف وتأخيره في الشتاء، لكن العالم لم يطبقها فعليًا إلا خلال الحرب العالمية الأولى عام 1916، حين لجأت ألمانيا والنمسا إلى النظام لتوفير الوقود المستخدم في الإضاءة. تبعتها بعد ذلك بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، ثم استقر النظام في عدد كبير من دول العالم مع نهاية الحرب العالمية الثانية.

 

التوقيت الشتوي في مصر

 

بدأت مصر تطبيق نظام التوقيت الصيفي والشتوي خلال الحرب العالمية الثانية لتقليل استهلاك الطاقة، ثم توقف لفترات متقطعة قبل أن يُعاد العمل به في سبعينيات القرن الماضي. وبعد توقفه عقب ثورة 25 يناير 2011، عاد التوقيت الصيفي في عام 2014 لأسباب تتعلق بترشيد استهلاك الكهرباء.

 

وفي عام 2023، أقرّ مجلس الوزراء المصري رسميًا عودة تطبيق التوقيت الصيفي، بحيث تُقدَّم الساعة في آخر جمعة من أبريل، وتُعاد إلى وضعها الطبيعي مع بداية التوقيت الشتوي في آخر خميس من أكتوبر من كل عام، أي الليلة.

البعد الاقتصادي للنظام

 

يُعتبر التوقيت الشتوي جزءًا من السياسات الاقتصادية لترشيد الطاقة، إذ إن تأخير الساعة ساعة واحدة يتيح توافق النشاط البشري مع ضوء النهار القصير في الشتاء، مما يقلل نسبيًا من استهلاك الكهرباء في الصباح الباكر.

 

ورغم أن بعض الدراسات الحديثة تشير إلى أن الوفر في الطاقة لم يعد كبيرًا كما كان في العقود الماضية بسبب تطور الإضاءة الموفرة والتكنولوجيا الحديثة، فإن كثيرًا من الدول ما زالت ترى في هذا النظام وسيلة لتنظيم ساعات العمل والراحة بما يتناسب مع الفصول، ويحافظ على قدر من التناسق الزمني بين الدول ذات خطوط العرض المختلفة.

 

التأثيرات النفسية والاجتماعية

 

لا يقتصر تأثير التوقيت الشتوي على الاقتصاد فحسب، بل يمتد إلى الإيقاع البيولوجي للإنسان. فمع تأخير الساعة، يحصل الأفراد على ساعة نوم إضافية، مما يمنحهم إحساسًا بالراحة المؤقتة في الأيام الأولى. لكن في المقابل، يعاني البعض من اضطرابات بسيطة في النوم والشهية والمزاج تُعرف باسم “اضطراب الساعة البيولوجية”، خاصة لدى الأطفال وكبار السن.

 

ويؤكد علماء النفس أن هذه التغيرات مؤقتة، وأن الجسم يتأقلم خلال أيام قليلة. كما أن التوقيت الشتوي يُسهم في تعديل نمط النشاط الاجتماعي؛ إذ يدفع الناس إلى العودة المبكرة إلى منازلهم والالتفاف حول الأنشطة العائلية والثقافية في المساء، بينما تقل الأنشطة الخارجية مع حلول الظلام المبكر.

العالم بين التأييد والرفض

 

يُطبّق نظام التوقيتين الصيفي والشتوي في أكثر من 70 دولة حول العالم، منها الولايات المتحدة، وأستراليا، وفرنسا، والمغرب، ولبنان، وسوريا، ومصر. في المقابل، قررت دول مثل اليابان، الصين، والسعودية الاستغناء عن التبديل الموسمي والاكتفاء بتوقيت ثابت طوال العام، تجنبًا للارتباك أو لتأثيره المحدود على استهلاك الطاقة.

 

توازن بين الطبيعة والاقتصاد

 

يبقى التوقيت الشتوي أكثر من مجرد تعديل في الساعة؛ إنه رمز لمحاولة الإنسان التوفيق بين إيقاع الطبيعة ومتطلبات الاقتصاد. فهو يعكس سعي المجتمعات الحديثة إلى إدارة الزمن بما يخدم احتياجاتها العملية دون الإخلال بالتناغم الطبيعي بين الضوء والظلام، بين العمل والراحة، وبين النهار والليل.

 

وفي النهاية، سواء أكان تطبيق التوقيت الشتوي خطوة اقتصادية أم قرارًا تنظيميًا، فإنه يذكّرنا في كل عام بأن الزمن ليس مجرد أرقام على الساعة، بل انعكاس لنبض الحياة في دورة الفصول التي لا تتوقف.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.