“لا أريد مغادرة عالمي”.. حكاية تسعيني يحول منزله إلى حصن في فيلم “فاروق”
بين الوثائقي والخيال.. "فاروق" يحصد الجوائز بقصة إنسانية عن التشبث بالبيت
مقاومة تسعيني: عندما يصبح البيت وطنا والذاكرة درعا
في زحمة التحولات العمرانية المتسارعة،حيث تختفي المعالم وتتبدل الأمكنة، تبرز قصص البشر كجدران صد أمام آلات الهدم. ليست مجرد حكايات عن تشبث بملكية أو حجر، بل هي ملاحم إنسانية عن التشبث بالذاكرة والهوية والكرامة. واحدة من هذه القصص تنقلها لنا عدسة المخرجة التركية أصلي أوزجه في فيلمها الوثائقي “فاروق“، الذي يحول معركة رجل تسعيني ضد الطرد من منزله إلى ملحمة إنسانية تلامس قلوب جميع من يعتبرون البيت أكثر من مجرد أربعة جدران.

قصة فاروق: البطل غير المتوقع
في قلب إسطنبول المتغيرة،حيث تتصارع مآذن التاريخ مع أبراج الحداثة، يقف فاروق، الرجل التسعيني، كحارس أخير لذكرى عاشها بين جدران بناية عتيقة. الفيلم، الذي تقدمه “قافلة بين سينمائيات” في سينما زاوية يوم السبت المقبل، ليس مجرد تسجيل لحدث، بل هو رحلة حميمة داخل معركة إنسانية. تصور المخرجة، التي تجمع بين دور الابنة وصانعة الأفلام، اللحظات الإنسانية العميقة لأبيها وهو يحاول يائسا تأخير هدم بيته عبر حضور اجتماعات إدارة العقار، محولا نفسه من ساكن عادي إلى “بطل” يواجه مصيرا مفروضا.
ما يجعله فريدا هو تلاعبه الواعي بالحدود الفاصلة بين الوثائقي والخيال. فالابنة لا تكتفي بتسجيل الأحداث، بل تنسج خيوطا سردية تجعل المتفرج شريكا في حيرة فاروق، إصراره، وخوفه من فقدان عالمه الكامل. الطقس اليومي الذي يحافظ عليه، الذكريات العالقة بكل زاوية، والعلاقات مع الجيران التي تشكل نسيج حياته، كلها تصبح شخصيات في هذه الدراما الواقعية. إنه صراع ضد التجريد، ضد أن تصبح قيمة البيت مجرد رقم في مخطط عقاري، وأن تذوب حياة بأكملها في قرار إداري.
الجوائز والأهمية النقدية: صوت إنساني يتردد عالميا
لم تكن قوة هذه القصة محصورة في حدود إسطنبول،فقد استطاع “فاروق” أن يلفت أنظار العالم، حيث حصد جائزة الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين (فيبريسي) كأفضل مساهمة في قسم بانوراما بمهرجان برلين السينمائي الدولي لعام ٢٠٢٤، كما توج بأفضل فيلم في مهرجان فالنسيا لدول البحر المتوسط في نفس العام. هذه الجوائز ليست تقديرا للأسلوب الفني فقط، بل اعترافا بقوة الرسالة الإنسانية العالمية التي يحملها الفيلم، والتي تتردد أصداؤها في كل مدينة تشهد تحولات عمرانية جائرة تهمش سكانها الأصليين.
الحوار والتفاعل: بعد العرض
لتعميق النقاش،سيعقب العرض لقاء مباشر عبر الإنترنت مع المخرجة أصلي أوزجه، تديره الباحثة العمرانية المصرية الدكتورة أمنية خليل. هذا الاختيار موفق جدا، حيث تختص أبحاث خليل بقضايا المدينة والعنف والتحولات الطبقية العمرانية، مع تركيز على المخططات التشاركية لتأهيل المناطق العشوائية في القاهرة. هذا الحوار سيفتح آفاقا للمقارنة بين نموذج إسطنبول الذي يقدمه الفيلم، والتجربة المصرية، مما يثري الفهم الجماعي لتحديات العمران المعاصر وتأثيره على حياة الناس البسطاء.
قافلة بين سينمائيات: إطار داعم للإبداع النسائي
كما يأتي هذا العرض في إطار استراتيجية”قافلة بين سينمائيات”. التي أسستها المخرجة أمل رمسيس عام ٢٠٠٨. هذه المبادرة المستقلة ليست مجرد منصة عروض. بل هي شبكة دولية تدعم صانعات الأفلام. خاصة من العالم العربي، عبر عروض متنقلة و اونلاين. وبرامج تعليمية وتدريبية في مجالات الإخراج والإنتاج والمونتاج. عودة القافلة هذا العام للعروض الحية، بعد عروض ناجحة مثل “حالة عشق” و”حكايات من القلب”. يؤكد على دورها الحيوي في خلق مساحات حوارية عبر السينما. وتمكين الأصوات النسائية التي تروي قصصا استثنائية من زوايا إنسانية فريدة.
خاتمة:
فيلم”فاروق” هو أكثر من فيلم وثائقي. إنه شهادة على زمن التهميش. و أنشودة للكرامة الإنسانية. قصة الرجل التسعيني الذي يقف في وجه جبروت التغيير تذكرنا بأن المدن ليست حجارة وشوارع فحسب. بل هي قبل كل شيء نسيج من القصص والذكريات و القلوب النابضة. عرض هذا الفيلم تحت مظلة “قافلة بين سينمائيات” هو فرصة ثمينة للجمهور لمشاهدة العالم بعين إنسانية عميقة. والتفكير في معنى أن يكون للبيت روح، وأن تكون المقاومة آخر ما تبقى للإنسان ليدافع عن عالمه الصغير.